فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

فصل: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الغنى العالي:
وهو نوعان: غنى بالله وغنى عن غير الله وهما حقيقة الفقر ولكن أرباب الطريق أفردوا للغنى منزلة قال صاحب المنازل رحمه الله باب الغني قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى} [الضحى: 8] وفي الآية ثلاثة أقوال أحدها: أنه أغناه من المال بعد فقره: وهذا قول أكثر المفسرين لأنه قابله بقوله: {عائلا} والعائل: هو المحتاج ليس ذا العيلة فأغناه من المال.
والثاني: أنه أرضاه بما أعطاه وأغناه به عن سواه فهو غنى قلب ونفس لا غنى مال وهو حقيقة الغنى والثالث: وهو الصحيح أنه يعم النوعين: نوعي الغنى فأغنى قلبه به وأغناه من المال ثم قال: الغنى اسم للملك التام يعني أن من كان مالكا من وجه دون وجه فليس بغني وعلى هذا: فلا يستحق اسم الغنى بالحقيقة إلا الله وكل ما سواه فقير إليه بالذات قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة:
الأولى: غنى القلب وهو سلامته من السبب ومسالمته للحكم وخلاصه من الخصومة حقيقة غني القلب: تعلقه بالله وحده وحقيقة فقره المذموم: تعلقه بغيره فإذا تعلق بالله حصلت له هذه الثلاثة التي ذكرها سلامته من السبب أي من التعلق به لا من القيام به والغني عند أهل الغفلة بالسبب ولذلك قلوبهم معلقة به وعند العارفين بالمسبب وكذلك الصناعة والقوة فهذه الثلاثة: هي جهات الغنى عند الناس وهي التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوى» وفي رواية «ولا لقوي مكتسب» وهو غني بالشيء فصاحبها غني بها إذا سكنت نفسه إليها وإن كان سكونه إلى ربه: فهو غني به وكل ما سكنت النفس إليه فهي فقيرة إليه وأما مسالمة الحكم فعلى نوعين.
أحدهما: مسالمة الحكم الديني الأمري وهي معانقته وموافقته ضد محاربته.
والثاني: مسالمة الحكم الكوني القدري الذي يجري عليه بغير اختباره ولا قدره له على دفعه وهو غير مأمور بدفعه وفي مسالمة الحكم نكتة لابد منها وهي تجريد إضافته ونسبته إلى من صدر عنه بحيث لا ينسبه إلى غيره وهذا يتضمن توحيد الربوبية في مسالمة الحكم الكوني وتوحيد الإلهية في مسألمة الحكم الديني وهما حقيقة {إياك نعبد وإياك نستعين} وأما الخلاص من الخصومة فإنما يحمد منه: الخلاص من الخصومة بنفسه لنفسه وأما إذا خاصم بالله ولله: فهذا من كمال العبودية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه: «اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت».
فصل:
قال: الدرجة الثانية: غنى النفس وهو استقامتها على المرغوب وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة جعل الشيخ: غنى النفس فوق غنى القلب ومعلوم: أن أمور القلب أكمل وأقوى من أمور النفس لكن في هذا الترتيب نكتة لطيفة وهي أن النفس من جند القلب ورعيته وهي من أشد جنده خلافا عليه وشقاقا له ومن قبلها تتشوش عليه المملكة ويدخل عليه الداخل فإذا حصل له كمال بالغنى: لم يتم له إلا بغناها أيضا فإنها متى كانت فقيرة عاد حكم فقرها عليه وتشوش عليه غناه فكان غناها تماما لغناه وكمالا له وغناه أصلا بغناها فمنه يصل الغنى إليها ومنها يصل الفقر والضرر والعنت إليه إذا عرف هذا فالشيخ جعل غناها بثلاثة أشياء: استقامتها على المرغوب وهو الحق تعالى واستقامتها عليه: استدامة طلبه وقطع المنازل بالسير إليه.
الثاني: سلامتها من الحظوظ وهي تعلقاتها الظاهرة والباطنة بما سوى الله. الثالث: براءتها من المراءاة وهي إرادة غير الله بشيء من أعمالها وأقوالها فمراءاتها دليل على شدة فقرها وتعلقها بالحظوظ من فقرها أيضا وعدم استقامتها على مطلوبها الحق أيضا: من فقرها وذلك يدل على أنها غير واجدة لله إذ لو وجدته لاستقامت على السير إليه ولقطعت تعلقاتها وحظوظها من غيره ولما أرادت بعملها غيره فلا تستقيم هذه الثلاثة إلا لمن قد ظفر بنفسه ووجد مطلوبه وما لم يجد ربه تعالى فلا استقامة له ولا سلامة لها من الحظوظ ولا براءة لها من الرياء.
فصل:
قال: الدرجة الثالثة: الغنى بالحق وهو على ثلاث مراتب المرتبة الأولى: شهود ذكره إياك والثانية: دوام مطالعة أوليته والثالثة: الفوز بوجوده أما شهود ذكره إياك فقد تقدم قريبا وأما مطالعة أوليته فهو سبقه للأشياء جميعا فهو الأول الذي ليس قبله شيء قال بعضهم: ما رأيت شيئا إلا وقد رأيت الله قبله فإن قلت: وأي غنى يحصل للقلب للقلب من مطالعة أولية الرب وسبقه لكل شيء ومعلوم أن هذا حاصل لكل أحد من غني أو فقير فما وجه الغنى الحاصل به قلت: إذا شهد القلب سبقه للأسباب وأنها كانت في حيز العدم وهو الذي كساها حلة الوجود فهي معدومة بالذات فقيرة إليه بالذات وهو الموجود بذاته والغني بذاته لا بغيره فليس الغنى في الحقيقة إلا به كما أنه ليس في الحقيقة إلا له فالغنى بغيره: عين الفقر فإنه غني بمعدوم فقير وفقير كيف يستغني بفقير مثله وأما الفوز بوجوده فإشارة القوم كلهم إلى هذا المعنى وهو نهاية سفرهم وفي الأثر الإلهي: ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء ومن لم يعلم معنى وجوده لله عز وجل والفوز به: فليحث على رأسه الرماد وليبك على نفسه والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة الضحى:
{وَالليل إِذَا سجى (2)}
قوله: {سجى}: قيل: معناه سَكَن، ومنه: سجا البحر يَسْجُو سَجْواً، أي: سَكَنَتْ أمواجُه، وطَرْفٌ ساجٍ، أي: فاتر، ومنه اسْتُعِير تَسْجِيَةُ الميتِ، أي: تَغْطِيَتُه بالثوبِ، قاله الراغب وقال الأعشى:
وما ذَنْبُنا إنْ جاش بَحْرُ ابنِ عَمِّكُمْ ** وبَحْرُكَ ساجٍ لا يُوارِي الدَّعامِصا

وقيل: سجا، أي: أَدْبَرَ وقيل بعكسِه.
وقال الفراء: أظلم.
وقال ابن الأعرابي: اشتدَّ ظلامُه. وقال الشاعر:
يا حَبَّذا القَمْراءُ والليل السَّاجْ ** وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّسَّاجْ

وهو من ذواتِ الواوِ، وإنما أُميل لموافقةِ رؤوسِ الآيِ، كالضُّحى فإنه من ذواتِ الواوِ ايضاً.
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى (3)}
قوله: {مَا وَدَّعَكَ}: هذا هو الجوابُ. والعامَّةُ على تشديد الدالِ من التَوْديع. وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتخفيفِها مِنْ قولهم: وَدَعَه، أي: تركه والمشهورُ في اللغةِ الاستغناءُ عن وَدَعَ ووَذَرَ واسمِ فاعِلهما واسمِ مفعولِهما ومصدرِهما بـ: تَرَكَ وما تصرَّفَ منه، وقد جاء وَدَعَ ووَذَرَ.
قال الشاعر:
سَلْ أميري ما الذي غَيَّرَهْ ** عن وِصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ

وقال الشاعر:
وثُمَّ وَدَعْنا آلَ عمروٍ وعامرٍ ** فرائِسَ أَطْرافِ المُثَقَّفةِ السُّمْرِ

قيل: والتوديعُ مبالغةٌ في الوَدْع؛ لأن مَنْ وَدَّعك مفارقاً فقد بالغ في تَرْكِك.
قوله: {وَمَا قلى} أي: ما أَبْغَضَك، قلاه يَقْليه بكسر العين في المضارع، وطيِّئ تقول: قلاه يقلاه بالفتح قال الشاعر:
أيا مَنْ لَسْتُ أَنْساه ** ولا واللَّهِ أَقْلاه

لكَ اللَّهُ على ذاكَ ** لكَ اللَّهُ لكَ اللَّهُ

وحُذِفَ مفعولُ {قلى} مراعاةً للفواصلِ مع العِلْم به وكذا بعدَ {فآوى} وما بعدَه.
{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى (4)}
قوله: {وَلَلآخِرَةُ}: الظاهرُ في هذه اللامِ أنَّها جوابُ القسم، وكذلك في {ولسوف} أَقْسم تعالى على أربعةِ أشياءَ: اثنان منفيَّان وهما توديعُه وقِلاه، واثنان مُثْبَتان مؤكَّدان، وهما كونُ الآخرةِ خيراً له من الدنيا، وأنه سوف يُعْطيه ما يُرضيه.
وقال الزمخشري: فإنْ قلتَ: ما هذه اللامُ الداخلةُ على (سوف)؟
قلت: هي لامُ الابتداءِ المؤكِّدةُ لمضمون الجملة، والمبتدأُ محذوفٌ تقديرُه: ولأنت سَوْفَ يُعْطيك، كما ذَكَرْنا في {لاَ أُقْسِمُ} [القيامة: 1] أن المعنى: لأَنا أُقْسِمُ. وذلك أنها لا تَخْلو: مِنْ أَنْ تكونَ لامَ قسمٍ أو ابتداء. فلامُ القسم لا تدخلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد، فبقي أن تكونَ لامَ ابتداءِ، ولامُ الابتداء لا تدخل إلاَّ على الجملة من المبتدأ والخبرِ فلابد من تقدير مبتدأ وخبره، وأصله: ولأنت سوف يعطيك.
ونقل الشيخ عنه أنه قال: وخُلِع من اللامِ دلالتُها على الحال. انتهى. وهذا الذي رَدَّده الزمخشري يُختار منه أنها لامُ القسم.
قوله: لا تَدْخُلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد. هذا استثنى النحاة منه صورتَيْنِ، أحداهما: أَنْ لا يُفْصَلَ بينها وبين الفعل حرفُ تنفيسٍ كهذه الآيةِ، كقولك: واللَّهِ لَسَأُعْطيك. والثانية: أن لا يُفْصَلَ بينهما بمعمولِ الفعل كقوله تعالى: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158]. ويَدُلُّ لِما قُلْتُه ما قال الفارسيُّ: ليسَتْ هذه اللامُ هي التي في قولك: إنَّ زيداً لَقائمٌ، بل هي التي في قولك: (لأَقومَنَّ) ونابَتْ (سوف) عن إحدى نونَيْ التوكيدِ، فكأنه قال: ولَيُعْطِيَنَّك.
وقوله: خُلِع منها دلالتُها على الحال. يعني أنَّ لامَ الابتداءِ الداخلةَ على المضارع تُخَلِّصُه للحال، وهنا لا يُمْكِنُ ذلك لأجلِ حَرْفِ التنفيسِ، فلذلك خُلِعَتِ الحاليةُ منها.
وقال الشيخ: واللامُ في {ولَلآخرةُ} لامُ ابتداء وَكَّدَتْ مضمونَ الجملةِ. ثم حكى بعضَ ما ذكَرْتُه عن الزمخشري وأبي على ثم قال: ويجوز عندي أَنْ تكونَ اللامُ في {وللآخرةُ خيرٌ} وفي {ولسوف يُعْطيك} اللامَ التي يُتَلَقَّى بها القسمُ، عَطَفَها على جوابِ القسم، وهو قوله: {مَا وَدَّعَكَ} فيكون قد أقسم على هذه الثلاثة انتهى. فظاهرُه أنَّ اللامَ في {ولَلآخرةُ} لامُ ابتداء غيرُ مُتَلَقَّى بها القسمُ، بدليلِ قوله ثانياً: ويجوز عندي. ولا يظهرُ انقطاعُ هذه الجملةِ عن جواب القسم البتةَ، وكذلك في {ولسوف} وتقديرُ الزمخشري مبتدأً بعدها لا يُنافي كونَها جواباً للقسم، وإنما مَنَعَ أن تكونَ جواباً داخلةً على المضارع لفظاً وتقديراً.
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فآوى (6)}
قوله: {فآوى}: العامَّة على (آوى) بألفٍ بعد الهمزة رباعياً، مِنْ آواه يُؤْوِيْهِ. وأبو الأشهب {فآوى} ثلاثياً.
قال الزمخشري: وهو على معنيين: إمَّا مِنْ (أواه) بمعنى آواه. سُمع بعضُ الرعاة يقول: (أين آوي هذه)، وإمَّا مِنْ أوى له إذا رحمه. انتهى. وعلى الثاني قوله:
أراني- ولا كفرانَ لله- أيَّةُ ** لنفسي لقد طالَبْتُ غيرَ مُنيلِ

أي: رحمةً لنفسي. ووجهُ الدلالةِ مِنْ قوله: يقول: أين آوي هذه؟ أنه لو كان من الرباعي لقال: (أُؤْوي) بضم الهمزةِ الأولى وسكونِ الثانيةِ؛ لأنه مضارعُ (آوى) مثل أَكْرَمَ، وهذه الهمزةُ المضمومةُ هي حرفُ المضارعةِ، والثانيةُ هي فاءُ الكلمةِ، وأمَّا همزةُ أَفْعَل فمحذوفةٌ على القاعدةِ، ولم تُبْدَلْ هذه الهمزةُ كما أُبْدِلَتْ في (أُوْمِنُ أنا) لئلا تثقلَ بالإِدغام، ولذلك نصَّ القراء على أنَّ {تُؤْويه} من قوله: {وفَصيلتِه التي تُؤْويه} لا يجوزُ إبْدالُها للثِّقَلِ.
{وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى (8)}
قوله: {عائلا}: أي: فقيراً. وهذه قراءة العامَّةِ. يقال: عال زيدٌ أي: افتقر.
قال جرير:
اللهُ نَزَّل في الكتابِ فريضةً ** لابنِ السبيل وللفقيرِ العائلِ

وأعال: كَثُرَ عيالُه قال:
وما يَدْري الفقيرُ متى غِناه ** وما يَدْري الغَنِيُّ متى يُعيلُ

وقرأ اليماني {عَيِّلاً} بكسر الياء المشددة كسَيِّد.
{فَأَمَّا اليتيم فَلَا تقهر (9)}
قوله: {فَأَمَّا اليتيم}: منصوبٌ بـ: تقهر. وبه استدل الشيخ ابن مالك- رحمه الله- على أنه لا يَلْزَمُ من تقديمِ المعمولِ تقديمُ العامل. ألا ترى أن {اليتيم} منصوبٌ بالمجزوم، وقد تقدَّم على الجازمِ، ولو قَدَّمْتَ {تقهر} على (لا) لامتنع؛ لأنَّ المجزومَ لا يتقدَّمُ على جازِمِه، كالمجرورِ لا يتقدَّمُ على جارِّه، وتقدَّم ذلك في سورة هود عند قوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8]. وقراءة العامَّةِ {تقهر} بالقاف من الغلبةِ. وابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي بالكاف. يقال: كَهَرَ في وجهه، أي: عَبَسَ. وفلان ذو كُهْرُوْرة، أي عابسُ الوجه. ومنه الحديث: «فبأبي وأمي هو ما كَهَرني» قاله الزمخشري.
وقال الشيخ: وهي لغةٌ بمعنى قراءة الجمهور. انتهى.
والكَهْرُ في الأصل: ارتفاعُ النهارِ مع شدَّةِ الحَرِّ.
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث (11)}
قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ}: متعلقٌ بـ: حَدِّثْ، والفاء غيرُ مانعةٍ من ذلك. وقد تقدَّم هذا. اهـ.